فصل: الهدية للمقرض ذريعة إلى الزّيادة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


قَرْض

التعريف

1 - القَرْض‏:‏ في اللّغة مصدر قَرَض الشيءَ يَقْرِضُهُ‏:‏ إذا قَطَعَه‏.‏

والقَِرْض‏:‏ اسم مصدر بمعنى الإقراض‏.‏ يقال‏:‏ قَرَضْتُ الشيء بالمقراض، والقَرْضُ‏:‏ ما تعطيه الإنسان من مالك لتُقْضَاه، وكأنه شيء قد قطعته من مالك، ويقال‏:‏ إن فلاناً وفلاناً يتقارضان الثناء، إذا أثنى كلُّ واحد منهما على صاحبه، وكأن معنى هذا أن كل واحد منهما أقرض صاحبه ثناءً، كقرض المال‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ دَفْعُ مالٍ إرفاقاً لمن ينتفع به ويردّ بدله‏.‏

قالوا‏:‏ ويسمى نفس المال المدفوع على الوجه المذكور قرضاً، والدافعُ للمال مقرضاً، والآخذ‏:‏ مقترضاً، ومستقرضاً ويسمى المال الذي يردّه المقترضُ إلى المقرض عوضاً عن القرض‏:‏ بدل القرض، وأخْذُ المال على جهة القرض‏:‏ اقتراضاً‏.‏

والقرض بهذا المعنى عند الفقهاء هو القرضُ الحقيقيّ، وقد تفرد الشافعية فجعلوا له قسيماً سموه‏:‏ القرض الحكمي، ووضعوا له أحكاماً تخصّه، ومثلوا له بالإنفاق على اللقيط المحتاج، وإطعام الجائع، وكسوة العاري، إذا لم يكونا فقراء، بنية القرض، وبمن أمر غيره بإعطاء مال لغرض الآمر‏.‏ كإعطاء شاعر أو ظالم، أو إطعام فقير أو فداءِ أسيرٍ، وَكَبِعْ هذا وأنفقه على نفسك بنيّة القرض‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - السلف‏:‏

2 - من معاني السلف القرض‏.‏ يقال تَسَلَّفَ واستسلف‏:‏ أي استقرض ليرد مثله عليه، وقد أسلفته‏:‏ أي أقرضته، ويأتي السلف أيضاً بمعنى السلم‏.‏ يقال‏:‏ سلف وأسلف بمعنى سلم وأسلم‏.‏

والسلف أعمّ من القرض‏.‏

ب - القراض‏:‏

3 - وهو المضاربة، وهو أن يدفع الرجل إلى الرجل نقداً ليتجر به على أن الرّبح بينهما على ما يتشارطانه‏.‏ قال الأزهريّ‏:‏ ‏"‏وأصل القراض مشتقّ من القرض، وهو القطع، وذلك أن صاحب المال قطع للعامل فيه قطعةً من ماله، وقطع له من الرّبح فيه شيئاً معلوماً‏.‏‏.‏‏.‏ وخصت شركة المضاربة بالقراض‏;‏ لأن لكلّ واحد منهما في الرّبح شيئاً مقروضاً،أي مقطوعاً لا يتعداه‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ مضاربة‏)‏‏.‏

والصّلة بينهما أن في كلّ منهما دفع المال إلى الغير، إلا أنه في القرض على وجه الضمان وفي القراض على وجه الأمانة‏.‏

مشروعية القرض

4 - ثبتت مشروعية القرض بالكتاب والسّنة والإجماع‏.‏

أما الكتاب، فبالآيات الكثيرة التي تحثّ على الإقراض، كقوله تعالى ‏{‏مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏، ووجه الدلالة فيها أن المولى سبحانه شبه الأعمال الصالحة والإنفاق في سبيل الله بالمال المقرض، وشبه الجزاء المضاعف على ذلك ببدل القرض، وسمى أعمال البرّ قرضاً‏;‏ لأن المحسن بذلها ليأخذ عوضها، فأشبه من أقرض شيئاً ليأخذ عوضه‏.‏

وأما السّنة، ففعله صلى الله عليه وسلم حيث روى أبو رافع رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال‏:‏ لم أجد فيها إلا خياراً رباعيّاً، فقال‏:‏ أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاءً»‏.‏

ثم ما ورد فيه من الأجر العظيم، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من مسلم يُقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقتها مرةً»‏.‏

وأما الإجماع، فقد أجمع المسلمون على جواز القرض‏.‏

الحكم التكليفيّ للقرض

5 - لا خلاف بين الفقهاء في أن الأصل في القرض في حقّ المقرض أنه قربة من القرب، لما فيه من إيصال النفع للمقترض، وقضاء حاجته، وتفريج كربته، وأن حكمه من حيث ذاته الندب، لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «من نفس عن مؤمن كربةً من كرب الدّنيا، نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدّنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدّنيا والآخرة، وألله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»، لكن قد يعرض له الوجوب أو الكراهة أو الحرمة أو الإباحة، بحسب ما يلابسه أو يفضي إليه، إذ للوسائل حكم المقاصد‏.‏

وعلى ذلك‏:‏ فإن كان المقترض مضطرّاً، والمقرِض مليئاً كان إقراضه واجباً، وإن علم المقرِضُ أو غلب على ظنّه أن المقترض يصرفه في معصية أو مكروه كان حراماً أو مكروهاً بحسب الحال، ولو اقترض تاجِرٌ لا لحاجة، بل ليزيد في تجارته طمعاً في الرّبح الحاصل منه، كان إقراضه مباحاً، حيث إنه لم يشتمل على تنفيس كربة، ليكون مطلوباً شرعاً‏.‏

6- أما في حقّ المقترض، فالأصل فيه الإباحة، وذلك لمن علم من نفسه الوفاء، بأن كان له مال مرتجىً، وعزم على الوفاء منه، وإلا لم يجز، ما لم يكن مضطرّاً - فإن كان كذلك وجب في حقّه لدفع الضّرّ عن نفسه - أو كان المقرض عالماً بعدم قدرته على الوفاء وأعطاه، فلا يحرم‏;‏ لأن المنع كان لحقّه، وقد أسقط حقه بإعطائه مع علمه بحاله، قال ابن حجر الهيتميّ‏:‏ فعلم أنه لا يحلّ لفقير إظهار الغنى عند الاقتراض‏;‏ لأن فيه تغريراً للمقرض، وقال أيضاً‏:‏ ومن ثم لو علم المقترض أنه إنما يقرضه لنحو صلاحه، وهو باطناً بخلاف ذلك حرم عليه الاقتراض أيضاً، كما هو ظاهر‏.‏

توثيق القرض

7 - ذهب الفقهاء إلى أن كتابة الدين والإشهاد عليه مندوبان وليسا واجبين مطلقاً، والأمر بهما في الآية إرشاد إلى الأوثق والأحوط، ولا يراد به الوجوب، قال الإمام الشافعيّ‏:‏ فلما أمر إذا لم يجدوا كاتباً بالرهن، ثم أباح ترك الرهن وقال‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ‏}‏، فدل على أن الأمر الأول دلالة على الحظّ، لا فرض فيه يعصي من تركه‏.‏ والتفصيل في مصطلح ‏(‏توثيق ف /7‏)‏‏.‏

أركان القرض

8 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أن أركان عقد القرض ثلاثة‏:‏

أ - الصّيغة ‏"‏ وهي الإيجاب والقبول ‏"‏‏.‏

ب - العاقدان ‏"‏ وهما المقرض والمقترض ‏"‏‏.‏

ج - المحلّ ‏"‏ وهو المال المقرض ‏"‏‏.‏

وذهب الحنفية إلى أن ركن القرض هو الصّيغة المؤلفة من الإيجاب والقبول الدالين على اتّفاق الإرادتين وتوافقهما على إنشاء هذا العقد‏.‏

الرّكن الأول‏:‏ الصّيغة ‏"‏ الإيجاب والقبول ‏"‏‏:‏

9 - لا خلاف بين الفقهاء في صحة الإيجاب بلفظ القرض والسلف وبكلّ ما يؤدّي معناهما، كأقرضتك وأسلفتك وأعطيتك قرضاً أو سلفاً، وملكتك هذا على أن ترد لي بدله، وخذ هذا فاصرفه في حوائجك ورد لي بدله، ونحو ذلك‏.‏‏.‏‏.‏ أو توجد قرينة دالة على إرادة القرض، كأن سأله قرضاً فأعطاه‏.‏‏.‏‏.‏ وكذا صحة القبول بكلّ لفظ يدلّ على الرّضا بما أوجبه الأول، مثل‏:‏ استقرضت أو قبلت أو رضيت وما يجري هذا المجرى، قال الشيخ زكريا الأنصاريّ‏:‏ وظاهر أن الالتماس من المقرض، كاقترض منّي، يقوم مقام الإيجاب، ومن المقترض، كأقرضني، يقوم مقام القبول، كما في البيع‏.‏

وقال النوويّ‏:‏ وقطع صاحب التتمة بأنه لا يشترط الإيجاب ولا القبول، بل إذا قال لرجل‏:‏ أقرضني كذا، أو أرسل إليه رسولاً، فبعث إليه المال، صح القرض، وكذا لو قال ربّ المال‏:‏ أقرضتك هذه الدراهم، وسلمها إليه ثبت القرض‏.‏

والشافعية مع قولهم - في الأصحّ - باشتراط الإيجاب والقبول لصحة القرض، كسائر المعاوضات، استثنوا منه ما سموه ب ‏"‏ القرض الحكميّ ‏"‏، فلم يشترطوا فيه الصّيغة أصلاً، قال الرمليّ‏:‏ أما القرض الحكميّ، فلا يشترط فيه صيغة، كإطعام جائع، وكسوة عار، وإنفاق على لقيط، ومنه أمر غيره بإعطاء ما له غرض فيه، كإعطاء شاعر أو ظالم، أو إطعام فقير، وكبع هذا وأنفقه على نفسك بنية القرض‏.‏

واتفق أبو يوسف ومحمد بن الحسن على أن ركن القرض هو الإيجاب والقبول، لكن روي عن أبي يوسف أن الرّكن فيه الإيجاب فقط، وأما القبول فليس بركن، حتى لو حلف لا يقرض فلاناً، فأقرضه، ولم يقبل، لم يحنث عند محمد، وهو إحدى الرّوايتين عن أبي يوسف، وفي الرّواية الأخرى‏:‏ يحنث، قال الكاسانيّ‏:‏ وجه هذه الرّواية‏:‏ أن الإقراض إعارة والقبول ليس بركن في الإعارة، ووجه قول محمد، أن الواجب في ذمة المستقرض مثل المستقرض، فلهذا اختص جوازه بما له مثل، فأشبه البيع، فكان القبول ركناً فيه كما في البيع‏.‏

وفرع أبو إسحاق الشّيرازيّ من الشافعية على اشتراط الإيجاب والقبول لانعقاد القرض، ما لو قال المقرض للمستقرض‏:‏ أقرضتك ألفاً، وقبل، وتفرقا، ثم دفع إليه الألف، أنه إن لم يطل الفصل جاز‏;‏ لأن الظاهر أنه قصد الإيجاب، وإن طال الفصل لم يجز حتى يعيد لفظ القرض‏;‏ لأنه لا يمكن البناء على العقد مع طول الفصل‏.‏

والتفصيل في ‏(‏عقد ف /5 - 27‏)‏‏.‏

الرّكن الثاني‏:‏ العاقدان ‏"‏ المقرض والمقترض ‏"‏‏:‏

أ - ما يشترط في القرض‏:‏

10 - لا خلاف بين الفقهاء في أنه يشترط في المقرض أن يكون من أهل التبرّع، أي حرّاً بالغاً عاقلاً رشيداً، قال البهوتيّ‏:‏ لأنه عقد إرفاق، فلم يصح إلا ممن يصحّ تبرّعه، كالصدقة، وقد أكد الكاسانيّ هذا المعنى بقوله‏:‏ لأن القرض للمال تبرّع، ألا ترى أنه لا يقابله عوض للحال، فكان تبرّعاً للحال، فلا يجوز إلا ممن يجوز منه التبرّع‏.‏

أما الشافعية فقد عللوا ذلك بأن في القرض شائبة تبرّعٍ، لا أنه من عقود الإرفاق والتبرّع، فقال صاحب ‏"‏ أسنى المطالب ‏"‏ ‏"‏ لأن القرض فيه شائبة التبرّع، ولو كان معاوضةً محضةً لجاز للوليّ - غير القاضي قرض مال مولّيه لغير ضرورة، ولاشْتُرِط في قرضِ الرّبويّ التقابض في المجلس، ولجاز في غيره شرط الأجل، واللوازم باطلة ‏"‏‏.‏

وقد نص الشافعية على أن أهلية المقرض للتبرّع تستلزم اختياره، وعلى ذلك فلا يصحّ إقراض من مكرهٍ، قالوا‏:‏ ومحلّه إذا كان الإكراه بغير حَقٍّ، أما إذا أكره بحقّ، بأن وجب عليه الإقراض لنحو اضطرارٍ فإن إقراضه مع الإكراه يكون صحيحاً‏.‏

وفرع الحنفية على اشتراط أهلية التبرّع في المقرض عدم صحة إقراض الأب والوصيّ لمال الصغير، وفرع الحنابلة عدم صحة قرض وليّ اليتيم وناظر الوقف لماليهما، أما الشافعية فقد فصلوا في المسألة وقالوا‏:‏ لا يجوز إقراض الوليّ مال مولّيه من غير ضرورة إذا لم يكن الحاكم، أما الحاكم فيجوز له عندهم إقراضه من غير ضرورة - خلافاً للسّبكيّ - بشرط يسار المقترض وأمانته وعدم الشّبهة في ماله إن سلم منها مال المولى عليه، والإشهاد عليه، ويأخذ رهناً إن رأى ذلك‏.‏

ب - ما يشترط في المقترض‏:‏

11 - ذكر الشافعية أنه يشترط في المقترض أهلية المعاملة دون اشتراط أهلية التبرّع، ونصّ الحنابلة على أن شرط المقترض تمتّعه بالذّمة‏;‏ لأنّ الدَّين لا يثبت إلا في الذّمم، ثم فرعوا على ذلك عدم صحة الاقتراض لمسجد أو مدرسة أو رباط‏;‏ لعدم وجود ذمم لهذه الجهات عندهم، أما الحنفية فلم ينصّوا على شروط خاصة للمقترض، والذي يستفاد من فروعهم الفقهية اشتراطهم أهلية التصرّفات القولية فيه، بأن يكون حرّاً بالغاً عاقلاً، وعلى ذلك قالوا‏:‏ إذا استقرض صبيّ محجور عليه شيئاً فاستهلكه الصبيّ، فعليه ضمانه عند أبي يوسف وهو الصحيح في المذهب، فإن تلف الشيء بنفسه فلا ضمان عليه بالاتّفاق، فإن كانت عينه باقيةً فللمقرض استردادها، وهذا الحكم مبنيّ على عدم صحة اقتراض المحجور عند الطرفين، وجاء في جامع أحكام الصّغار للأسروشنيّ‏:‏ استقراض الأب لابنه الصغير يجوز، وكذا استقراض الوصيّ للصغير، فقد ذكر في رهن ‏"‏ الهداية ‏"‏‏:‏ ولو استدان الوصيّ لليتيم في كسوته وطعامه ورهن به متاعاً لليتيم جاز‏;‏ لأن الاستدانة جائزة للحاجة، والرهن يقع إيفاءً للحقّ، فيجوز‏.‏

الاقتراض على بيت المال والوقف‏:‏

12 - لا خلاف بين الفقهاء في أنه يجوز للإمام الاستقراض على بيت المال وقت الأزمات وعند النوائب والملمات لداعي الضرورة أو المصلحة الراجحة، قال إمام الحرمين الجوينيّ‏:‏ وما ذكره الأولون من استسلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مسيس الحاجات واستعجاله الزكوات، فلست أنكر جواز ذلك، ولكنّي أجوّز الاستقراض عند اقتضاء الحال وانقطاع الأموال، ومصير الأمر إلى منتهًى يغلب على الظنّ فيه استيعاب الحوادث لما يتجدد في الاستقبال‏.‏

غير أن الفقهاء قيدوا ذلك بثلاثة شروط‏:‏

أحدها‏:‏ أن يكون هناك إيراد مرتجىً لبيت المال ليوفى منه القرض، قال الشاطبيّ‏:‏ والاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت المال دخل ينتظر أو يرتجى‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون الاستقراض من أجل الوفاء بالتزام ثابت على بيت المال، وهو ما يصير بتأخيره ديناً لازماً عليه، وما ليس كذلك لا يستقرض له، قال أبو يعلى‏:‏ لو اجتمع على بيت المال حقان ضاق عنهما واتسع لأحدهما، صرف فيما يصير منهما ديناً فيه، ولو ضاق عن كلّ واحد منهما، كان لوليّ الأمر إذا خاف الضرر والفساد أن يقترض على بيت المال ما يصرفه في الدّيون دون الإرفاق، وكان من حدث بعده من الولاة مأخوذاً بقضائه إذا اتسع له بيت المال‏.‏

والثالث‏:‏ أن يعيد الإمام إلى بيت المال كل ما اقتطعه منه لنفسه وعياله وذويه بغير حقّ، وما وضعوه في حرام، وتبقى الحاجة إلى الاستقراض قائمةً، قال ابن السّبكيّ‏:‏ لما عزم السّلطان قطز على المسير من مصر لمحاربة التتار، وقد دهموا البلاد، جمع العساكر، فضاقت يده عن نفقاتهم، فاستفتى الإمام العز بن عبد السلام في أن يقترض من أموال التّجار، فقال له العزّ‏:‏ إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحليّ الحرام اتّخاذه، وضربته سكةً ونقداً، وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم، ذلك الوقت اطلب القرض، وأما قبل ذلك فلا‏.‏

هذا ما يتعلق باستقراض الإمام على بيت المال للمصلحة العامة، أما استقراضه عليه لغير ذلك، فقد نص الشافعية والحنابلة في باب اللقيط على وجوب النفقة عليه من بيت المال إذا لم يوجد له مال، فإن تعذر أخذ نفقته من بيت المال - بأن لم يكن في بيت المال شيء أو كان ما هو أهمّ منه - اقترض الحاكم على بيت المال مقدار نفقته‏.‏

13 - أما الاستقراض على الوقف، فهو جائز لداعي المصلحة، قال البهوتيّ الحنبليّ‏:‏ والظاهر أن الدين في هذه المسائل يتعلق بذمة المقترض وبهذه الجهات، كتعلّق أرش الجناية برقبة العبد الجاني، فلا يلزم المقترض الوفاء من ماله، بل من ريع الوقف وما يحدث لبيت المال، أو يقال‏:‏ لا يتعلق بذمته رأساً، أي بذمة المقترض‏.‏

غير أن الفقهاء اختلفوا في شروط الاقتراض على الوقف على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها للحنفية‏:‏ وهو أنه لا يجوز الاقتراض على الوقف إن لم يكن بأمر الواقف، إلا إذا احتيج إليه لمصلحة الوقف - كتعمير وشراء بذر وليس للوقف غلة قائمة بيد المتولّي - فيجوز عند ذلك بشرطين‏:‏

الأول‏:‏ إذن القاضي إن لم يكن بعيداً عنه، ولأن ولايته أعمّ في مصالح المسلمين، فإن كان بعيداً عنه فيستدين الناظر بنفسه‏.‏

والثاني‏:‏ أن لا تتيسر إجارة العين والصرف من أجرتها‏.‏

والثاني للمالكية والحنابلة‏:‏ وهو أنه يجوز للناظر الاقتراض على الوقف بلا إذن حاكم لمصلحة - كما إذا قامت حاجة لتعميره، ولا يوجد غلة للوقف يمكن الصرف منها على عمارته - لأن الناظر مؤتمن مطلق التصرّف، فالإذن والائتمان ثابتان له‏.‏

والثالث للشافعية‏:‏ وهو أنه يجوز لناظر الوقف الاقتراض على الوقف عند الحاجة إن شرطه له الواقف أو أذن له فيه الحاكم، قالوا‏:‏ فلو اقترض من غير إذن القاضي ولا شرط من الواقف لم يجز، ولا يرجع على الوقف بما صرفه لتعدّيه فيه‏.‏

الرّكن الثالث‏:‏ المحلّ ‏"‏ المالُ المقرض ‏"‏‏:‏

للمال المقرض شروط اتفق الفقهاء في بعضها واختلفوا في بعضها الآخر على ما يلي‏:‏

الشرط الأول‏:‏ أن يكون من المثليات‏:‏

14 - والمثليات‏:‏ هي الأموال التي لا تتفاوت آحادها تفاوتاً تختلف به قيمتها، كالنّقود وسائر المكيلات والموزونات والمذروعات والعدديات المتقاربة‏.‏

قال الحنفية‏:‏ إنما يصحّ قرض المثليات وحدها، أما القيميات التي تتفاوت آحادها تفاوتاً تختلف به قيمتها، كالحيوان والعقار ونحو ذلك، فلا يصحّ إقراضها‏.‏

قال الكاسانيّ‏:‏ لأنه لا سبيل إلى إيجاب ردّ العين، ولا إلى إيجاب ردّ القيمة‏;‏ لأنه يؤدّي إلى المنازعة لاختلاف القيمة باختلاف تقويم المقوّمين، فتعين أن يكون الواجب فيه رد المثل، فيختص جوازه بما له مثل، وقال ابن عابدين‏:‏ لا يصحّ القرض في غير المثليّ‏;‏ لأن القرض إعارة ابتداءً حتى تصحَّ بلفظها، معاوضة انتهاءً لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاك عينه، فيستلزم إيجاب المثل في الذّمة، وهذا لا يتأتى في غير المثليّ‏.‏

وذهب المالكية والشافعية في الأصحّ إلى جواز قرض المثليات، غير أنهم وسّعوا دائرة ما يصحّ إقراضه، فقالوا‏:‏ يصحّ إقراض كلّ ما يجوز السلم فيه - حيواناً كان أو غيره - وهو كلّ ما يملك بالبيع ويضبط بالوصف ولو كان من القيميات، وذلك لصحة ثبوته في الذّمة، ولما صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنه استقرض بَكْراً»، وقيس عليه غيره، أما ما لا يجوز السلم فيه، وهو ما لا يضبط بالوصف - كالجواهر ونحوها - فلا يصحّ إقراضه‏.‏

ثم استثنى الشافعية من عدم جواز قرض ما لا يجوز السلم فيه جواز قرض الخبز وزناً، للحاجة والمسامحة‏.‏

والمعتمد في المذهب عند الحنابلة جواز قرض كلّ عين يجوز بيعها، سواء أكانت مثليةً أم قيميةً، وسواء أكانت مما يضبط بالصّفة أم لا‏.‏

الشرط الثاني‏:‏ أن يكون عيناً‏:‏

15 - ذهب الحنفية والحنابلة على المعتمد في المذهب إلى أنه لا يصحّ إقراض المنافع، وإن كان هناك اختلاف بين المذهبين في مستند المنع ومنشئه‏.‏

فأساس منع إقراض المنافع عند الحنفية‏:‏ أن القرض إنما يرد على دفع مال مثليّ لآخر ليرد مثله، والمنافع لا تعتبر أموالاً في مذهبهم‏;‏ لأن المال عندهم ما يميل إليه طبع الإنسان ويمكن ادّخاره لوقت الحاجة، والمنافع غير قابلة للإحراز والادّخار، إذ هي أعراض تحدث شيئاً فشيئاً وآناً فآناً، وتنتهي بانتهاء وقتها، وما يحدث منها غير الذي ينتهي، ومن أجل ذلك لم يصح جعل المنافع محلّاً لعقد القرض‏.‏

وأما مستند منع إقراض المنافع عند الحنابلة، فهو أنه غير معهود، أي في العرف وعادة الناس‏.‏

وقال ابن تيمية‏:‏ ويجوز قرض المنافع، مثل أن يحصد معه يوماً، ويحصد معه الآخر يوماً، أو يسكنه داراً ليسكنه الآخر بدلها، لكن الغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال، حتى يجب على المشهور في الأخرى القيمة،ويتوجه في المتقوّم أنه يجوز ردّ المثل بتراضيهما‏.‏ أما الشافعية والمالكية فلم يشترطوا في باب القرض كون محلّ القرض عيناً، ولكنهم أقاموا ضابطاً لما يصحّ إقراضه، وهو أن كل ما جاز السلم فيه صح إقراضه، وفي باب السلم نصّوا على جواز السلم في المنافع كما هو الشأن في الأعيان، وعلى ذلك يصحّ إقراض المنافع التي تنضبط بالوصف بمقتضى قواعد مذهبهم‏.‏

الشرط الثالث‏:‏ أن يكون معلوماً‏:‏

16 - لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط معلومية محلّ القرض لصحة العقد، وذلك ليتمكن المقترض من ردّ البدل المماثل للمقرض، وهذه المعلومية تتناول أمرين‏:‏ معرفة القدر، ومعرفة الوصف، جاء في ‏"‏ أسنى المطالب ‏"‏‏:‏ يشترط لصحة الإقراض العلم بالقدر والصّفة ليتأتى أداؤه، فلو أقرضه كفّاً من دراهم لم يصح، ولو أقرضه على أن يستبان مقداره ويرد مثله صح‏.‏

وقد أوضح ابن قدامة في المغني علة هذا الاشتراط، فقال‏:‏ ‏"‏وإذا اقترض دراهم أو دنانير غير معروفة الوزن لم يجز‏;‏ لأن القرض فيها يوجب رد المثل، فإذا لم يعرف المثل لم يمكن القضاء، وكذلك لو اقترض مكيلاً أو موزوناً جزافاً لم يجز لذلك، ولو قدره بمكيال بعينه أو صنجةٍ بعينها غير معروفين عند العامة لم يجز‏;‏ لأنه لا يأمن تلف ذلك، فيتعذر ردّ المثل، فأشبه السلم في مثل ذلك ‏"‏‏.‏

وقد استثنى الشافعية من قولهم باشتراط كون محلّ القرض معلوم القدر ما سموه بالقرض الحكميّ، كقوله‏:‏ ‏"‏عَمِّرْ داري ‏"‏ ونحوه، فلم يوجبوا معرفته لصحة القرض‏.‏

أحكام القرض

أ - من حيث أثره‏:‏

17 - اختلف الفقهاء في ترتّب أثر القرض، وهو نقل ملكية محلّه من المقرض إلى المقترض، هل يتمّ بالعقد، أم يتوقف على القبض، أم لا يتحقق إلا بتصرّف المقترض فيه أو استهلاكه‏.‏‏.‏‏؟‏ على أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ للحنابلة والحنفية في القول المعتمد، والشافعية في الأصحّ‏:‏ وهو أن المقترض إنما يملك المال المقرض بالقبض، قال الشافعية‏:‏ غير أن الملك في القرض غير تامّ لأنه يجوز لكلّ واحد منهما أن ينفرد بالفسخ‏.‏

واستدلّوا على ذلك‏:‏

أ - بأن مأخذ الاسم دليل عليه‏;‏ لأن القرض في اللّغة القطع، فدل على انقطاع ملك المقرض بنفس التسليم‏.‏

ب - وبأن المستقرض بنفس القبض صار بسبيل من التصرّف في القرض من غير إذن المقرض بيعاً وهبةً وصدقةً وسائر التصرّفات، وإذا تصرف فيه نفذ تصرّفه، ولا يتوقف على إجازة القرض، وتلك أمارات الملك، إذ لو لم يملكه لما جاز له التصرّف فيه‏.‏

ج - وبأن القرض عقد اجتمع فيه جانب المعاوضة وجانب التبرّع، أما المعاوضة‏:‏ فلأن المستقرض يجب عليه ردّ بدل مماثل عوضاً عما استقرضه، وأما التبرّع‏:‏ فلأنه ينطوي على تبرّع من المقرض للمستقرض بالانتفاع بالمال المقرض بسائر التصرّفات، غير أن جانب التبرّع في هذا العقد أرجح‏;‏ لأن غايته وثمرته إنما هي بذل منافع المال المقرض للمقترض مجاناً‏;‏ لأنه لا يقابله عوض في الحال، ولا يملكه من لا يملك التبرّع، ولهذا كان حكمه كباقي التبرّعات من هبات وصدقات،فتنتقل الملكية فيه بالقبض لا بمجرد العقد، ولا بالتصرّف، ولا بالاستهلاك‏.‏ والثاني‏:‏ للمالكية، وهو أن المقترض يملك القرض ملكاً تامّاً بالعقد وإن لم يقبضه، ويصير مالاً من أمواله، ويقضى له به، وقد ذهب إلى هذا الشوكانيّ ورجحه، وحجته أن التراضي هو المناط في نقل ملكية الأموال من بعض العباد إلى بعض‏.‏

والثالث‏:‏ للشافعية في القول المقابل للأصحّ، وهو أن المقترض إنما يملك المال المقرض بالتصرّف، فإذا تصرف فيه تبين ثبوت ملكه قبله، والمراد بالتصرّف‏:‏ كلّ عمل يزيل الملك، كالبيع والهبة والإعتاق والإتلاف ونحو ذلك قالوا‏:‏ لأنه ليس بتبرّع محض، إذ يجب فيه البدل، وليس على حقائق المعاوضات، فوجب أن يكون تملّكه بعد استقرار بدله‏.‏

والرابع‏:‏ لأبي يوسف، وهو أن القرض لا يملك بالقبض ما لم يستهلك، وحجته أن الإقراض إعارة، بدليل أنه لا يلزم فيه الأجل، إذ لو كان معاوضةً للزم فيه، كما في سائر المعاوضات‏;‏ ولأنه لا يملكه الأب والوصيّ والعبد المأذون والمكاتب، وهؤلاء يملكون المعاوضات، فثبت بذلك أن الإقراض إعارة، فتبقى العين على حكم ملك المقرض قبل أن يستهلكها المقترض‏.‏

ب - من حيث موجبه‏:‏

18 - ذهب الفقهاء إلى أن المقترض تنشغل ذمته ببذل القرض للمقرض بمجرد تملّكه لمحلّ القرض، ويصير ملتزماً بردّ البدل إليه‏.‏

أما صفة البدل، ومكان ردّه، وزمانه، فتفصيله فيما يلي‏:‏

صفة بدل القرض

19 - اختلف الفقهاء في بدل القرض الذي يلزم المقترض أداؤه على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ للمالكية والشافعية في الأصحّ، وهو أن المقترض مخير في أن يرد مثل الذي اقترضه إذا كان مثليّاً‏;‏ لأنه أقرب إلى حقّه، وبين أن يرده بعينه إذا لم يتغير بزيادة أو نقصان، وهو قول أبي يوسف من الحنفية‏.‏

أما إذا كان قيميّاً، فله أن يرده بعينه ما دامت العين على حالها لم تتغير، أو بمثله صورةً، لما صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنه استسلف بكراً ورد رباعيّاً، وقال‏:‏ إن خيار الناس أحسنهم قضاءً»، ولأن ما ثبت في الذّمة بعقد السلم ثبت بعقد القرض قياساً على ما له مثل‏.‏ قال الهيتميّ‏:‏ ومن لازم اعتبار المثل الصّوريّ اعتبار ما فيه من المعاني التي تزيد بها القيمة، فيردّ ما يجمع تلك الصّفات كلها، حتى لا يفوت عليه شيء‏.‏

والثاني‏:‏ وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وهو أن المقترض بمجرد تملّكه للعين المقترضة، فإنه يثبت في ذمته مثلها لا عينها ولو كانت قائمةً، حتى لو أراد المقرض أن يأخذ محل القرض بعينه من المستقرض فليس له ذلك، وللمستقرض أن يعطيه غيره، وأنه لو استقرض شيئاً من المكيلات أو الموزونات أو المسكوكات من الذهب أو الفضة، فرخصت أسعارها أو غلت، فعليه مثلها، ولا عبرة برخصها وغلائها، وأنه إذا تعذر على المقترض ردّ مثل ما اقترضه بأن استهلكها ثم انقطعت عن أيدي الناس، فعند أبي حنيفة يجبر المقرض على الانتظار إلى أن يوجد مثلها، ولا يصار إلى القيمة إلا إذا تراضيا عليها، وذهب الصاحبان إلى أنه يصار إلى القيمة لأن مبنى قول الحنفية بوجوب المثل مطلقاً دون القيمة هو عدم صحة القرض عندهم إلا في المثليات‏.‏

والثالث‏:‏ للحنابلة، حيث فرقوا بين ما إذا كان محلّ القرض مثليّاً مكيلاً أو موزوناً، وبين ما إذا كان قيميّاً لا ينضبط بالصّفة كالجواهر ونحوها، وبين ما إذا كان سوى ذلك، وقالوا‏:‏

أ - إن كان محلّ القرض مثليّاً من المكيلات أو الموزونات، فيلزم المقترض مثله، ولو أراد رده بعينه، فيجبر المقرض على قبوله ما لم تتغير عينه بعيب أو نقصان أو نحو ذلك، سواء تغير سعره أو لا، لأنه رده على صفة حقّه، فلزم قبوله كالسلم، ولو تغير حالها بنحو ما ذكرنا، فإنه لا يلزمه قبول المردود لما فيه من الضرر عليه‏;‏ لأنه دون حقّه، ويجب على المقترض أداء مثله‏.‏

وفي الحالين إذا رد المقترض المثل وجب على المقرض قبوله، سواء رخص سعره أو غلا أو بقي على حاله، وذلك لأن المثل يضمن في الغصب والإتلاف بمثله، فكذا هاهنا، فإن أعوز المثل - أي تعذر - فعليه قيمته يوم إعوازه‏;‏ لأنه يوم ثبوت القيمة في الذّمة‏.‏

ب - وإن كان محلّ القرض غير مكيل ولا موزون، فيجب ردّ قيمته يوم القبض إن كان مما لا ينضبط بالصّفة، كالجواهر ونحوها قولاً واحداً‏;‏ لأن قيمتها تتغير بالزمن اليسير باعتبار قلة الراغب وكثرته‏.‏

أما ما ينضبط بالصّفة كالمذروع والمعدود والحيوان، فيجب ردّ قيمته يوم القرض لأنها تثبت في ذمته، وهو المذهب‏.‏

وفي وجه آخر يجب ردّ المثل صورةً‏;‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «استسلف من رجل بكراً فرد مثله»‏.‏

20 - وما سبق بيانه من مذاهب الفقهاء في صفة بدل القرض، إنما هو من حيث المثل أو القيمة لمحلّ القرض، أما من حيث الجودة والرداءة في الوصف، أو الزّيادة والنّقصان في القدر، فقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة وابن حبيب من المالكية وغيرهم إلى أن المقترض لو قضى دائنه ببدل خير منه في القدر أو الصّفة، أو دونه، برضاهما جاز ما دام أن ذلك جرى من غير شرط أو مواطأة، وذلك لما صح عن النبيّ أنه استسلف بكراً، فرد خيراً منه، وقال‏:‏ «إن خياركم أحسنكم قضاءً»‏;‏ ولأنه لم تجعل تلك الزّيادة عوضاً في القرض، ولا وسيلة إليه، ولا إلى استيفاء حقّه، فحلت كما لو لم يكن قرض، بل إن الحنفية والشافعية نصّوا على أنه يستحبّ في حقّ المقترض أن يرد أجود مما أخذ بغير شرط، وأنه لا يكره للمقرض أخذه‏.‏

وذهب مالك إلى التفصيل في المسألة، فكره أن يزيد المقترض في الكمّ والعدد إلا في اليسير جدّاً، وقال‏:‏ إنما الإحسان في القضاء أن يعطيه أجود عيناً وأرفع صفةً، وأما أن يزيده في الكيل أو الوزن أو العدد فلا، وهذا كلّه إذا كان من غير شرط حين السلف‏.‏

وروي عن أحمد المنع من الزّيادة والفضل في القرض مطلقاً، وعن أبيّ بن كعب وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أن المقرض يأخذ مثل قرضه، ولا يأخذ فضلاً‏;‏ لئلا يكون قرضاً جر منفعةً‏.‏

ونص الحنفية على أن المدين إذا قضى الدين أجود مما عليه، فلا يجبر ربّ الدين على القبول، كما لو دفع إليه أنقص مما عليه، وإن قبل جاز، كما لو أعطاه خلاف الجنس‏.‏ قال في الفتاوى الهندية‏:‏ وهو الصحيح‏.‏

مكان ردّ البدل

21 - لا خلاف بين الفقهاء في أن الأصل في القرض وجوب ردّ بدله في نفس البلد التي وقع فيها، وأن للمقرض المطالبة به فيها، ويلزم المقترض الوفاء به حيث قبضه، إذ هو المكان الذي يجب التسليم فيه‏.‏

قال الشوكانيّ‏:‏ ووجهه أن المقرض محسن وما على المحسنين من سبيل، فلو كان عليه أن يتجشم مشقةً لردّ قرضه لكان ذلك منافياً لإحسانه‏.‏

لكن لو بذله المقترض في مكان آخر، أو طالبه المقرض به في بلد أخرى فإن كان مما لا حمل له ولا مؤنة كالدراهم والدنانير فقد اتفق الفقهاء على أنه يلزم مقرضها أخذها بغير محلّ القرض، إذ لا كلفة في حملها ولا ضرر عليه‏.‏

وأما ما له حمل ومؤنة كالمكيل والموزون فقد اتفق الفقهاء على أن المقرض لا يلزم أخذه بغير محلّه، لما فيه من زيادة الكلفة، إلا إن رضي المقرض بأخذه جاز والحكم كذلك عند الشافعية والحنابلة إذا كان المكان مخوفاً‏.‏

ولو التقى المقرض والمقترض في غير بلد القرض، وقيمة محلّ القرض في البلدتين مختلفة، فطلب المقرض أخذه منه، فذهب الشافعية والحنابلة ورواية عند الحنفية إلى أنه يلزم المقترض أداؤها، وتعتبر قيمة بلد القرض لأنه محلّ التملّك‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ تكون القيمة يوم القرض‏.‏

وقال محمد‏:‏ يوم الخصومة‏.‏

والرّواية الثانية عند الحنفية‏:‏ يستوثق للمقرض من المطلوب بكفيل حتى يوفيه مثله حيث أقرضه‏.‏

وقال ابن عبد البرّ من المالكية‏:‏ لو لقي المقرض المقترض في غير البلد الذي أقرضه فيه فطالبه بالقضاء فيه لم يلزمه ذلك، ولزم أن يوكّل من يقبضه منه في ذلك البلد الذي اقترضه فيه، ولو اصطلحا على القضاء في البلد الآخر كان ذلك جائزاً إن كان بعد حلول الأجل، وإن كان قبل حلوله لم يلزم‏.‏

زمان ردّ البدل

22 - اختلف الفقهاء في وقت ردّ البدل في القرض على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ للحنفية والشافعية والحنابلة، وهو أن بدل القرض يثبت حالّاً في ذمة المقترض، وعلى ذلك فللمقترض مطالبته به في الحال مطلقاً، كسائر الدّيون الحالة‏;‏ ولأن القرض سبب يوجب رد المثل في المثليات، فكان حالّاً، كالإتلاف، ويتفرع على هذا الأصل أنه لو أقرضه تفاريق، ثم طالبه بها جملةً، فله ذلك‏;‏ لأن الجميع حالّ، فأشبه ما لو باعه بيوعاً متفرّقةً حالة الثمن، ثم طالبه بثمنها جملةً‏.‏

والثاني‏:‏ للمالكية، وهو قول لابن القيّم، وهو أن البدل لا يثبت حالّاً في ذمة المقترض، وعلى ذلك قالوا‏:‏ لو اقترض مطلقاً - من غير اشتراط أجل - فلا يلزمه ردّ البدل لمقرضه إن أراد الرّجوع فيه، ويجبر المقرض على إبقائه عنده إلى قدر ما يرى في العادة أنه انتفع به‏.‏

الشّروط الجعلية في القرض

الشّروط الجعلية في القرض أنواع‏:‏ فمنها المشروع، ومنها الممنوع، منها ما هو مختلف في جوازه بين الفقهاء، على النحو التالي‏:‏

أ - اشتراط توثيق دين القرض‏:‏

23 - ذهب الفقهاء إلى صحة الإقراض بشرط رهن وكفيل وإشهاد أو أحدها‏;‏ لأن هذه الأمور توثيقات لا منافع زائدة للمقرض، ويستدلّ على مشروعية الرهن بما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنه اشترى من يهوديّ طعاماً ورهنه درعه»‏;‏ ولأن ما جاز فعله جاز شرطه‏;‏ ولأنه شرط لا ينافي مقتضى العقد‏.‏

ب - اشتراط الوفاء في غير بلد القرض‏:‏

24 - يدخل هذا الاشتراط في باب السفتجة، وهو محرم عند الشافعية والحنابلة في المذهب، والمالكية كذلك إلا لضرورة‏.‏

وذهب الحنفية إلى الكراهة، وأجازه بعض فقهاء المالكية وهو رواية عن أحمد وابن تيمية‏.‏ وانظر تفصيل ذلك في ‏(‏سفتجة ف /3‏)‏‏.‏

ج - اشتراط الوفاء بأنقص‏:‏

25 - إذا اشترط في عقد القرض أن يرد المقترض على المقرض أنقص مما أخذ منه قدراً أو صفةً، فقد ذهب الشافعية والحنابلة إلى فساد هذا الشرط وعدم لزومه، وهل يفسد العقد بذلك‏؟‏ للشافعية وجهان، أصحّهما في المذهب أنه لا يفسد العقد، وهو مذهب الحنابلة‏;‏ لأن المنهي عنه جرّ المقرض النفع إلى نفسه، وهاهنا لا نفع له في الشرط، بل النفع للمقترض، فكأن المقرض زاد في المسامحة والإرفاق، ووعده وعداً حسناً‏.‏

والوجه الثاني عند الشافعية الفساد‏;‏ لمنافاته مقتضى العقد كشرط الزّيادة‏.‏

د - اشتراط الأجل‏:‏

26 - اختلف الفقهاء في صحة اشتراط الأجل ولزومه في القرض على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ لجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة والأوزاعيّ وابن المنذر وغيرهم، وهو أنه لا يلزم تأجيل القرض، وإن اشترط في العقد، وللمقرض أن يسترده قبل حلول الأجل‏;‏ لأن الآجال في القروض باطلة قال الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ لكن ينبغي للمقرض أن يفي بوعده‏.‏ واستثنى الحنفية من أصلهم بعدم لزوم الأجل في القرض أربع مسائل‏:‏ إذا كان مجحوداً بأن صالح المقرض المقترض الجاحد للقرض على مبلغ إلى أجل فيلزم الأجل، أو حكم مالكيّ بلزومه بعد ثبوت أصل الدين عنده، أو أحاله على آخر فأجله المقرض أو أحاله على مديون مؤجل دينه، لأن الحوالة مبرئة، والرابعة الوصية، بأن أوصى بأن يقرض من ماله ألف درهم فلاناً إلى سنة‏.‏

وقد استدل الحنابلة على عدم لزوم اشتراط الأجل في القرض بأنه عقد منع فيه التفاضل، فمنع فيه الأجل كالصرف، إذ الحالّ لا يتأجل بالتأجيل، وبأنه وعد، والوفاء بالوعد غير لازم واحتج الحنفية على عدم صحة تأجيله بأنه إعارة وصلة في الابتداء حتى يصح بلفظ الإعارة، ولا يملكه من لا يملك التبرّع، كالوصيّ والصبيّ، ومعاوضة في الانتهاء، فعلى اعتبار الابتداء لا يلزم التأجيل فيه، كما في الإعارة، إذ لا جبر في التبرّع، وعلى اعتبار الانتهاء لا يصحّ، لأنه يصير بيع الدراهم بالدراهم نسيئةً، وهو رباً‏.‏

ومع اتّفاق هؤلاء الفقهاء على أن شرط الأجل في القرض فاسد غير ملزم للمقرض، فقد اختلفوا في عقد القرض هل يفسد بفساد الشرط أم لا‏؟‏

فقال الحنفية والحنابلة‏:‏ القرض صحيح‏.‏ والأجل باطل‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ إذا شرط في القرض أجل نظر‏:‏

فإن لم يكن للمقرض غرض في التأجيل ‏"‏ أي منفعة له ‏"‏ لغا الشرط، ولا يفسد العقد في الأصحّ‏;‏ لأنه زاد في الإرفاق بجرّه المنفعة للمقترض فيه، ويندب له الوفاء بشرطه‏.‏

أما إذا كان للمقرض فيه غرض، بأن كان زمن نهب، والمستقرض مليء، فوجهان‏:‏ أصحّهما أنه يفسد القرض‏;‏ لأن فيه جر منفعة للمقرض‏.‏

والثاني‏:‏ للمالكية والليث بن سعد وابن تيمية وابن القيّم، وهو صحة التأجيل بالشرط، فإذا اشترط الأجل في القرض، فلا يلزم المقترض ردّ البدل قبل حلول الأجل المعين، واستدلّوا على ذلك بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المسلمون على شروطهم»‏.‏

ثم فرع المالكية على قولهم هذا‏:‏ أنه لو رغب المقترض تعجيله لربّه قبل أجله لزم المقرض قبوله‏;‏ لأن الحق في الأجل للمقترض فإذا أسقط حقه لزم المقرض قبوله، وأجبر على ذلك، عيناً كان البدل أو عرضاً، أو كان نفس المال المقترض‏.‏

هـ - اشتراط ردّ محلّ القرض بعينه‏:‏

27 - نص الحنابلة على أنه إذا شرط المقرض على المقترض رد محلّ القرض بعينه فلا يصحّ هذا الشرط‏;‏ لأنه ينافي مقتضى العقد، وهو أن ينتفع المقترض باستهلاكه وردّ بدله، فاشتراط ردّه بعينه يمنع ذلك غير أن فساد الشرط لا يفسد العقد، بل يبقى صحيحاً‏.‏

و - اشتراط الزّيادة للمقرض‏:‏

28 - لا خلاف بين الفقهاء في أن اشتراط الزّيادة في بدل القرض للمقرض مفسد لعقد القرض، سواء أكانت الزّيادة في القدر، بأن يرد المقترض أكثر مما أخذ من جنسه، أو بأن يزيده هديةً من مال آخر، أو كانت في الصّفة، بأن يرد المقترض أجود مما أخذ، وإن هذه الزّيادة تعدّ من قبيل الرّبا‏.‏

قال ابن عبد البرّ‏:‏ وكلّ زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلّف فهي رباً، ولو كانت قبضةً من علف، وذلك حرام إن كان بشرط، وقال ابن المنذر‏:‏ أجمعوا على أن المسلّف إذا شرط على المستسلف زيادةً أو هديةً، فأسلف على ذلك، أن أخذ الزّيادة على ذلك رباً‏.‏

واستدلّوا على ذلك‏:‏ بما روي من «النهي عن كلّ قرض جر نفعاً» أي للمقرض‏.‏

وبأن موضوع عقد القرض الإرفاق والقربة، فإذا شرط المقرض فيه الزّيادة لنفسه خرج عن موضوعه، فمنع صحته‏;‏ لأنه يكون بذلك قرضاً للزّيادة لا للإرفاق والقربة‏;‏ ولأن الزّيادة المشروطة تشبه الرّبا‏;‏ لأنها فضل لا يقابله عوض، والتحرّز عن حقيقة الرّبا وعن شبهة الرّبا واجب‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ ومثل ذلك اشتراط المقرض أي عمل يجرّ إليه نفعاً، كأن يسكنه المقترض داره مجاناً، أو يعيره دابته، أو يعمل له كذا، أو ينتفع برهنه‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

ولا يخفى أن السلف إذا وقع فاسداً وجب فسخه، ويرجع إلى المثل في ذوات الأمثال، وإلى القيمة في غيرها‏.‏

الهدية للمقرض ذريعة إلى الزّيادة

29 - اختلف في حكم هدية المقترض للمقرض قبل الوفاء بالقرض على أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ للحنفية، وهو أنه لا بأس بهدية من عليه القرض لمقرضه، لكن الأفضل أن يتورع المقرض عن قبول هديته إذا علم أنه إنما يعطيه لأجل القرض، أما إذا علم أنه يعطيه لا لأجل القرض، بل لقرابة أو صداقة بينهما، فلا يتورع عن القبول، وكذا لو كان المستقرض معروفاً بالجود والسخاء، كذا في محيط السرخسيّ، فإن لم يكن شيء من ذلك فالحالة حالة الإشكال، فيتورع عنه حتى يتبين أنه أهدى لا لأجل الدين‏.‏

والثاني‏:‏ للمالكية، وهو أنه لا يحلّ للمقترض أن يهدي الدائن رجاء أن يؤخّره بدينه، ويحرم على الدائن قبولها إذا علم أن غرض المدين ذلك، لأنه يؤدّي إلى التأخير مقابل الزّيادة، ثم إن كانت الهدية قائمةً وجب ردّها، وإن فاتت بمفوّت وجب ردّ مثلها إن كانت مثليةً، وقيمتها يوم دخلت في ضمانه إن كانت قيميةً، أما إذا لم يقصد المدين ذلك، وصحت نيته، فله أن يهدي دائنه، قال ابن رشد‏:‏ لكن يكره لذي الدين أن يقبل ذلك منه وإن تحقق صحة نيته في ذلك إذا كان ممن يقتدى به، لئلا يكون ذريعةً لاستجازة ذلك حيث لا يجوز‏.‏

ثم أوضح المالكية ضابط الجواز حيث صحت النّية وانتفى القصد المحظور فقالوا‏:‏ إن هدية المديان حرام إلا أن يتقدم مثل الهدية بينهما قبل المداينة، وعلم أنها ليست لأجل الدين، فإنها لا تحرم حينئذ حالة المداينة، وإلا أن يحدث موجب للهدية بعد المداينة، من صهارة أو جوار أو نحو ذلك، فإنها لا تحرم أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ للشافعية وهو أنه لا يكره للمقرض أخذ هدية المستقرض بلا شرط ولو في الرّبويّ، قال الماورديّ‏:‏ والتنزُّه عنه أولى قبل ردّ البدل‏.‏

والرابع‏:‏ للحنابلة، وهو أن المقترض إذا أهدى لمقرضه هديةً قبل الوفاء، ولم ينو المقرض احتسابها من دينه، أو مكافأته عليها لم يجز، إلا إذا جرت عادة بينهما بذلك قبل القرض، فإن كانت جاريةً به جاز أما إذا أهداه بعد الوفاء - بلا شرط ولا مواطأة - فهو جائز في الأصحّ‏;‏ لأنه لم يجعل تلك الزّيادة عوضاً في القرض ولا وسيلةً إليه، ولا إلى استيفاء دينه، فأشبه ما لو لم يكن هناك قرض، واستدلّوا على ذلك‏:‏ بما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أقرض أحدكم قرضاً، فأهدى إليه أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك» وما روى ابن سيرين أن عمر رضي الله عنه أسلف أبي بن كعب رضي الله عنه عشرة آلاف درهم، فأهدى إليه أبيّ بن كعب من ثمرة أرضه، فردها عليه، ولم يقبلها، فأتاه أبيّ، فقال‏:‏ لقد علم أهل المدينة أنّي من أطيبهم ثمرةً، وأنه لا حاجة لنا، فبم منعت هديتنا‏؟‏ ثم أهدى إليه بعد ذلك فقبل‏.‏

قال ابن القيّم‏:‏ فكان ردّ عمر لَمَّا توهّم أن تكون هديته بسبب القرض، فلمّا تيقن أنها ليست بسبب القرض قبلها، وهذا فصل النّزاع في مسألة هدية المقترض‏.‏ وبما ورد عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه قال لأبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ‏:‏ إنك في أرض الرّبا بها فاشٍ، إذا كان لك على رجل حقّ فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قتٍّ فإنه رباً‏.‏

قال ابن القيّم‏:‏ وكلّ ذلك سدّاً لذريعة أخذ الزّيادة في القرض الذي موجبه ردّ المثل‏.‏

وعن الإمام أحمد رواية بجواز الهدية غير المشروطة من المقترض إلى المقرض‏.‏

ز - اشتراط عقد آخر في القرض‏:‏

ذكر الفقهاء صوراً متعدّدةً لاشتراط عقد آخر - كبيع وإجارة ومزارعة ومساقاة وقرض آخر - في عقد القرض، وفرقوا بينها في الحكم، نظراً لتفاوت منافاتها لمقتضى عقد القرض، وذلك في الصّور التالية‏:‏

أ - الصّورة الأولى‏:‏

30 - إذا اشترط في عقد القرض أن يقرضه مالاً آخر، بأن قال المقرض للمقترض‏:‏ أقرضتك كذا بشرط أن أقرضك غيره كذا وكذا، فقد نص الشافعية على أن عقد القرض صحيح، والشرط لاغ في حقّ المقرض، فلا يلزمه ما شرط على نفسه‏.‏

قالوا‏:‏ لأنه وعد غير ملزم، كما لو وهبه ثوباً بشرط أن يهبه غيره‏.‏

ب - الصّورة الثانية‏:‏

31 - إذا اشترط في عقد القرض قرض آخر من المقترض لمقرضه في مقابل القرض الأول، وتسمى هذه المسألة عند الفقهاء بأسلفني أسلّفك، فقد نص الحنابلة على عدم جواز ذلك، وعلى فساد هذا الشرط مع بقاء العقد صحيحاً‏;‏ لعدم تأثير الشرط الفاسد على صحة العقد في مذهبهم‏.‏

والذي يستفاد من كلام المالكية حول هذه الصّورة هو كراهة القرض مع ذلك الشرط‏.‏

ونص الحنفية على حرمة الشّروط في القرض، قال ابن عابدين‏:‏ وفي الخلاصة القرض بالشرط حرام والشرط لغو‏.‏

ج - الصّورة الثالثة‏:‏

32 - إذا شرط في عقد القرض أن يبيعه المقرض شيئاً، أو يشتري منه، أو يؤجّره، أو يستأجر منه، ونحو ذلك، فقد نص المالكية والشافعية والحنابلة على عدم جواز هذا الاشتراط، واستدلّوا على ذلك‏:‏ بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يحلّ سلف وبيع»‏.‏

قال ابن القيّم‏:‏ وحرم الجمع بين السلف والبيع، لما فيه من الذريعة إلى الرّبح في السلف بأخذ أكثر مما أعطى، والتوسّل إلى ذلك بالبيع أو الإجارة كما هو الواقع، وقال‏:‏ وأما السلف والبيع‏;‏ فلأنه إذا أقرضه مائةً إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة، فقد جعل هذا البيع ذريعةً إلى الزّيادة في القرض الذي موجبه ردّ المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك منه، ثم قال‏:‏ وهذا هو معنى الرّبا‏.‏

ولأنهما جعلا رفق القرض ثمناً، والشرط لغو، فيسقط بسقوطه بعض الثمن، ويصير الباقي مجهولاً، قال الخطابيّ‏:‏ وذلك فاسد‏;‏ لأنه إنما يقرضه على أن يحابيه في الثمن، فيدخل الثمن في حدّ الجهالة‏.‏

ولأنه شرط عقداً في عقد فلم يجز، كما لو باعه داره بشرط أن يبيعه الآخر داره، وإن شرط أن يؤجّره داره بأقل من أجرتها، أو على أن يستأجر دار المقرض بأكثر من أجرتها كان أبلغ في التحريم‏.‏

ولأن القرض ليس من عقود المعاوضة، وإنما هو من عقود البرّ والمكارمة، فلا يصحّ أن يكون له عوض، فإن قارن القرض عقد معاوضة كان له حصة من العوض، فخرج عن مقتضاه، فبطل وبطل ما قارنه من عقود المعاوضة، ووجه آخر‏:‏ وهو أنه إن كان القرض غير مؤقت فهو غير لازم للمقرض، والبيع وما أشبهه من العقود اللازمة - كالإجارة والنّكاح - لا يجوز أن يقارنها عقد غير لازم، لتنافي حكميهما‏.‏

33 - وقد ذكر الحنفية في هذا المقام مسألةً تتعلق بهذه الصّورة، وهي شراء المقترض الشيء اليسير من المقرض بثمن غال لحاجته للقرض، وقالوا‏:‏ يجوز ويكره، وقد علق العلامة ابن عابدين على ذلك فقال‏:‏ أي يصحّ مع الكراهة، وهذا لو وقع الشّراء بعد القرض، لما في الذخيرة، وإن لم يكن النفع مشروطاً في القرض، ولكن اشترى المستقرض من المقرض بعد القرض متاعاً بثمن غال‏.‏

فعلى قول الكرخيّ‏:‏ لا بأس به، وقال الخصاف‏:‏ ما أحبّ له ذلك، وذكر الحلوانيّ‏:‏ إنه حرام‏;‏ لأنه يقول لو لم أكن اشتريته منه طالبني بالقرض في الحال، ومحمد لم ير بذلك بأساً، وقال خواهر زاده‏:‏ ما نقل عن السلف محمول على ما إذا كانت المنفعة مشروطةً، وذلك مكروه بلا خلاف، وما ذكره محمد محمول على ما إذا كانت غير مشروطة، وذلك غير مكروه بلا خلاف، وهذا إذا تقدم الإقراض على البيع‏.‏

فإن تقدم البيع - بأن باع المطلوب منه المعاملة من الطالب ثوباً قيمته عشرون ديناراً بأربعين ديناراً، ثم أقرضه ستّين ديناراً أخرى، حتى صار له على المستقرض مائة دينار، وحصل للمستقرض ثمانون ديناراً - ذكر الخصاف أنه جائز، وهذا مذهب محمد بن سلمة إمام بلخ، وكثير من مشايخ بلخ كانوا يكرهونه ويقولون إنه قرض جر منفعةً، إذ لولاه لم يتحمل المستقرض غلاء الثمن، ومن المشايخ من قال يكره لو كانا في مجلس واحد، وإلا فلا بأس به، لأن المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرّقة، فكأنهما وجدا معاً، فكانت المنفعة مشروطةً في القرض، وكان شمس الأئمة الحلوانيّ يفتي بقول الخصاف وابن سلمة، ويقول‏:‏ هذا ليس بقرض جر منفعةً، بل هذا بيع جر منفعةً، وهي القرض‏.‏

ح - اشتراط الجعل على الاقتراض بالجاه‏:‏

34 - اختلف الفقهاء فيمن استقرض لغيره بجاهه، هل يجوز له أن يشترط عليه جعلاً ثمناً لجاهه أم لا‏؟‏

قال الشافعية‏:‏ لو قال لغيره اقترض لي مائةً ولك علي عشرة فهو جعالة‏.‏

وقال الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ ما أحبّ أن يقترض بجاهه لإخوانه، قال القاضي أبو يعلى‏:‏ يعني إذا كان من يقترض له غير معروف بالوفاء، لكونه تغريراً بمال المقرض وإضراراً به، أما إذا كان معروفاً بالوفاء فلا يكره‏;‏ لكونه إعانةً له وتفريجاً لكربته‏.‏

وعلى هذا، فإذا استقرض الإنسان لغيره بجاهه، قال الحنابلة‏:‏ له أخذ جعل منه مقابل اقتراضه له بجاهه، بخلاف أخذ الجعل على كفالته له، فإنه غير جائز، قال ابن قدامة‏:‏ لو قال‏:‏ اقترض لي من فلان مائةً، ولك عشرة، فلا بأس، ولو قال‏:‏ اكفل عنّي ولك ألف لم يجز، وذلك لأن قوله اقترض لي ولك عشرة جعالة على فعل مباح، فجازت، كما لو قال‏:‏ ابن لي هذا الحائط ولك عشرة، وأما الكفالة، فإن الكفيل يلزمه الدين، فإذا أداه وجب له على المكفول مثله، فصار كالقرض، فإذا أخذ عوضاً صار القرض جارّاً للمنفعة، فلم يجز‏.‏

وفي مذهب المالكية‏:‏ اختلف في ثمن الجاه، فمن قائل بالتحريم مطلقاً، ومن قائل بالكراهة بإطلاق، ومن مفصّل بين أن يكون ذو الجاه يحتاج إلى نفقة وتعب وسفر، فأخذ مثل أجره، فذلك جائز، وإلا حرم، قال التسوّليّ‏:‏ وهذا هو الحقّ‏.‏